سورة الرحمن - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}
اعلم أولاً أن مناسبة هذه السورة لما قبلها بوجهين:
أحدهما: أن الله تعالى افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر، فإن من يقدر على شق القمر يقدر على هد الجبال وقد الرجال، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والرحموت وهو القرآن الكريم، فإن شفاء القلوب بالصفاء عن الذنوب ثانيهما: أنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] غير مرة، وذكر في السورة: {فَبِأَيّ ءَالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 13] مرة بعد مرة لما بينا أن تلك السورة سورة إظهار الهيبة، وهذه السورة سورة إظهار الرحمة، ثم إن أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها حيث قال في آخر تلك السورة: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55]، والاقتدار إشارة إلى الهيبة والعظمة وقال هاهنا: {الرحمن} أي عزيز شديد منتقم مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار، رحمن منعم غافر للأبرار. ثم في التفسير مسائل:
المسألة الأولى: في لفظ {الرحمن} أبحاث، ولا يتبين بعضها إلا بعد البحث في كلمة الله فنقول:
المبحث الأول: من الناس من يقول: إن الله مع الألف واللام اسم علم لموجد الممكنات وعلى هذا فمنهم من قال: {الرحمن} أيضاً اسم علم له وتمسك بقوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110] أي أياً ما منهما، وجوز بعضهم قول القائل: يا الرحمن كما يجوز يا الله وتمسك بالآية وكل هذا ضعيف وبعضها أضعف من بعض، أما قوله: الله مع الألف واللام اسم علم ففيه بعض الضعف وذلك لأنه لو كان كذلك لكانت الهمزة فيه أصلية، فلا يجوز أن تجعل وصلية، وكان يجب أن يقال: خلق الله كما يقال: علم أحمد وفهم إسماعيل، بل الحق فيه أحد القولين: إما أن نقول: إله أو لاه اسم لموجد الممكنات اسم علم، ثم استعمل مع الألف واللام كما في الفضل والعباس والحسن والخليل، وعلى هذا فمن سمى غيره إلهاً فهو كمن يستعمل في مولود له فيقول لابنه محمد وأحمد وإن كان علمين لغيره قبله في أنه جائز لأن من سمى ابنه أحمد لم يكن له من الأمر المطاع ما يمنع الغير عن التسمية به ولم يكن له الاحتجار وأخذ الاسم لنفسه أو لولده بخلاف الملك المطاع إذا استأثر لنفسه اسماً لا يستجرئ أحد ممن تحت ولايته ما دام له الملك أن يسمى ولده أو نفسه بذلك الاسم خصوصاً من يكون مملوكاً لا يمكنه أن يسمي نفسه باسم الملك ولا أن يسمي ولده به، والله تعالى ملك مطاع وكل من عداه تحت أمره فإذا استأثر لنفسه اسماً لا يجوز للعبيد أن يتسموا بذلك الاسم، فمن يسمى فقد تعدى فالمشركون في التسمية متعدون، وفي المعنى ضالون وإما أن نقول: إله أو لاه اسم لمن يعبد والألف واللام للتعريف، ولما امتنع المعنى عن غير الله امتنع الاسم، فإن قيل: فلو سمى أحد ابنه به كان ينبغي أن يجوز؟ قلنا: لا يجوز لأنه يوهم أنه اسم موضوع لذلك الابن لمعنى لا لكونه علماً، فإن قيل: تسمية الواحد بالكريم والودود جائزة قلنا: كل ما يكون حمله على العلم وعلى اسم لمعنى ملحوظ في اللفظ الذكرى لا يفضي إلى خلل يجوز ذلك فيه فيجوز تسمية الواحد بالكريم والودود ولا يجوز تسميته بالخالق، والقديم لأن على تقدير حمله على أنه علم غير ملحوظ فيه المعنى يجوز، وعلى تقدير حمله على أنه اسم لمعنى هو قائم به كالقدرة التي بها بقاء الخلق أو العدم، فلا يجوز لكن اسم المعبود من هذا القبيل فلا يجوز التسمية به، فأحد هذين القولين حق وقولهم مع الألف واللام علم ليس بحق، إذا عرفت البحث في الله فما يترتب عليه، وهو أن الرحمن اسم على أضعف منه، وتجويز يا الرحمن أضعف من الكل.
البحث الثاني: الله والرحمن في حق الله تعالى كالاسم الأول والوصف الغالب الذي يصير كالاسم بعد الاسم الأول كما في قولنا: عمر الفاروق، وعلى المرتضى وموسى الرضا، وغير ذلك مما نجده في أسماء الخلفاء وأوصافهم المعرفة لهم التي كانت لهم وصفاً وخرجت بكثرة الاستعمال عن الوصفية، حتى إن الشخص وإن لم يتصف به أو فارقه الوصف يقال له ذلك كالعلم فإذن للرحمن اختصاص بالله تعالى، كما أن لتلك الأوصاف اختصاصاً بأولئك غير أن في تلك الأسماء والأوصاف جاز الوضع لما بينا حيث استوى الناس في الاقتدار والعظمة، ولا يجوز في حق الله تعالى، فإن قيل: إن من الناس من أطلق لفظ الرحمن على اليمامي، نقول: هو كما أن من الناس من أطلق لفظ الإله على غير الله تعدياً وكفراً، نظراً إلى جوازه لغة وهو اعتقاد باطل.
البحث الثالث: لله تعالى رحمتان سابقة ولاحقة فالسابقة هي التي بها خلق الخلق واللاحقة هي التي أعطى بها الخلق بعد إيجاده إياهم من الرزق والفطنة وغير ذلك فهو تعالى بالنظر إلى الرحمة السابقة رحمن، وبالنظر إلى اللاحقة رحيم، ولهذا يقال: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، فهو رحمن، لأنه خلق الخلق أولاً برحمته، فلما لم يوجد في غيره هذه الرحمة ولم يخلق أحد حداً لم يجز أن يقال لغيره: رحمن، ولما تخلق الصالحون من عباده ببعض أخلاقه على قدر الطاقة البشرية، وأطعم الجائع وكسا العاري، وجد شيء من الرحمة اللاحقة التي بها الرزق والإعانة فجاز أن يقال له رحيم، وقد ذكرنا هذا كله في تفسير سورة الفاتحة غير أنا أردنا أن يصير ما ذكرنا مضموماً إلى ما ذكرناه هناك، فأعدناه هاهنا لأن هذا كله كالتفصيل لما ذكرناه في الفاتحة.
المسألة الثانية: {الرحمن} مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي قوله: {عَلَّمَ القرءان} وقيل {الرحمن} (خبر) مبتدأ تقديره هو الرحمن، ثم أتى بجملة بعد جملة فقال: {عَلَّمَ القرءان} والأول أصح، وعلى القول الضعيف الرحمن آية.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {عَلَّمَ القرءان} لابد له من مفعول ثان فما ذلك؟ نقول: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: قيل: علم بمعنى جعله علامة أي هو علامة النبوة ومعجزة وهذا يناسب قوله تعالى: {وانشق القمر} [القمر: 1] على ما بينا أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيئة وهو أنه شق مالا يشقه أحد غيره، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة، وهو أنه نشر من العلوم مالا ينشره غيره، وهو ما في القرآن، وعلى هذا الوجه من الجواب ففيه احتمال آخر، وهو أنه جعله بحيث يعلم فهو كقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} [القمر: 17] والتعليم على هذا الوجه مجاز. يقال: إن أنفق على متعلم وأعطى أجرة على تعليمة علمه وثانيهما: أن المفعول الثاني لابد منه وهو جبريل وغيره من الملائكة علمهم القرآن ثم أنزله على عبده كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] ويحتمل أن يقال: المفعول الثاني هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن القرآن كلام الله تعالى لا كلام محمد، وفيه وجه ثالث: وهو أنه تعالى علم القرآن الإنسان، وهذا أقرب ليكون الإنعام أتم والسورة مفتتحة لبيان الأعم من النعم الشاملة.
المسألة الرابعة: لم ترك المفعول الثاني؟ نقول: إشارة إلى أن النعمة في تعميم التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، يقال: فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه، ولا يبين من يطعمه.
المسألة الخامسة: ما معنى التعليم؟ نقوله على قولنا له مفعول ثان إفادة العلم به، فإن قيل: كيف يفهم قوله تعالى: {عَلَّمَ القرءان} مع قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}؟ [آل عمران: 7] نقول: من لا يقف عند قوله: {إِلاَّ الله} ويعطف: {الراسخون} على الله عطف المفرد على المفرد لا يرد عليه هذا، ومن يقف ويعطف قوله تعالى: {والراسخون فِي العلم} على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} عطف جملة على جملة يقول: إنه تعالى علم القرآن، لأن من علم كتاباً عظيماً ووقع على ما فيه، وفيه مواضع مشكلة فعلم ما في تلك المواضع بقدر الإمكان، يقال: فلان يعلم الكتاب الفلاني ويتقنه بقدر وسعه، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين، وكذلك القول في تعليم القرآن، أو تقول: لا يعلم تأويله إلا الله وأما غيره فلا يعلم من تلقاء نفسه مالم يعلم، فيكون إشارة إلى أن كتاب الله تعالى ليس كغيره من الكتب التي يستخرج ما فيها بقوة الذكاء والعلوم.
ثم قال تعالى: {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في وجه الترتيب وهو على وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا أن المراد من علم علم الملائكة وتعليمه الملائكة قبل خلق الإنسان، فعلم تعالى ملائكته المقربين القرآن حقيقة يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ * فِي كتاب مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 77 79] ثم قال تعالى: {تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين} [الواقعة: 80] إشارة إلى تنزيله بعد تعليمه، وعلى هذا ففي النظم حسن زائد وذلك من حيث إنه تعالى ذكر أموراً علوية وأموراً سفلية، وكل علوي قابله بسفلي، وقدم العلويات على السفليات إلى آخر الآيات، فقال: {عَلَّمَ القرءان} إشارة إلى تعليم العلويين، وقال: {عَلَّمَهُ البيان} إشارة إلى تعليم السفليين، وقال: {الشمس والقمر} [الرحمن: 5] في العلويات وقال في مقابلتهما من السفليات: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6].
ثم قال تعالى: {والسماء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] وفي مقابلتها: {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10]، وثانيهما: أن تقديم تعليم القرآن إشارة إلى كونه أتم نعمة وأعظم إنعاماً، ثم بين كيفية تعليم القرآن، فقال: {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان} وهو كقول القائل: علمت فلاناً الأدب حملته عليه، وأنفقت عليه مالي، فقوله: حملته وأنفقت بيان لما تقدم، وإنما قدم ذلك لأنه الإنعام العظيم.
المسألة الثانية: ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق، حيث قال هناك: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] ثم قال: {وَرَبُّكَ الأكرم الذي عَلَّمَ بالقلم} [العلق: 3، 4] فقدم الخلق على التعليم؟ نقول: في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله: {عَلَّمَهُ البيان} بعد قوله: {خَلَقَ الإنسان}.
المسألة الثالثة: ما المراد من الإنسان؟ نقول: هو الجنس، وقيل: المراد محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد آدم والأول أصح نظراً إلى اللفظ في {خُلِقَ} ويدخل فيه محمد وآدم وغيرهما من الأنبياء.
المسألة الرابعة: ما البيان وكيف تعليمه؟ نقول: من المفسرين من قال: البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده، فإن به يمتاز الإنسان عن غيره عن الحيوانات، وقوله: {خَلَقَ الإنسان} إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص، و{عَلَّمَهُ البيان} إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره. وقد خرج ما ذكرنا أولاً أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ماذكره إجمالاً بقوله تعالى: {عَلَّمَ القرءان} كما قلنا في المثال حيث يقول القائل: علمت فلاناً الأدب حملته عليه، وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر، وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير، قال تعالى: {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وقد سمى الله تعالى القرآن فرقاناً وبياناً والبيان فرقان بين الحق والباطل، فصح إطلاق البيان، وإرادة القرآن.
المسألة الخامسة: كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول: أما إن قلنا: إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن، فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه، ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن، فقال: {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ} وقد بين ذلك، وأما إن قلنا: المراد {عَلَّمَ القرءان} الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به، وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة راجعة إلى الإنسان وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة، فقال: {عَلَّمَهُ البيان} أي علم الإنسان تعديداً للنعم عليه ومثل هذا قال في: {اقرأ} قال مرة: {عَلَّمَ بالقلم} من غير بيان المعلم، ثم قال مرة أخرى: {عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يَعْلَمْ} وهو البيان، ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله.


{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)}
وفي الترتيب وجوه:
أحدها: هو أن الله تعالى لما ثبت كونه رحمن وأشار إلى ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن ذكر نعمه وبدأ بخلق الإنسان فإنه نعمة جميع النعم به تتم، ولولا وجوده لما انتفع بشيء، ثم بين نعمة الإدراك بقوله: {عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 4] وهو كالوجود إذ لولاه لما حصل النفع والانتفاع، ثم ذكر من المعلومات نعمتين ظاهرتين هما أظهر أنواع النعم السماوية وهما الشمس والقمر ولولا الشمس لما زالت الظلمة، ولولا القمر لفات كثير من النعم الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ما تظهر نعمتهما، ثم بين كمال نفعهما في حركتهما بحساب لا يتغير ولو كانت الشمس ثابتة في موضع لما انتفع بها أحد، ولو كان سيرها غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها وبناء الأمر على الفصول، ثم بين في مقابلتهما نعمتين ظاهرتين من الأرض وهما النبات الذي لا ساق له والذي له ساق، فإن الرزق أصله منه، ولولا النبات لما كان للآدمي رزق إلا ما شاء الله، وأصل النعم على الرزق الدار، وإنما قلنا: النبات هو أصل الرزق لأن الرزق إما نباتي وإما حيواني كاللحم واللبن وغيرهما من أجزاء الحيوان، ولولا النبات لما عاش الحيوان والنبات وهو الأصل وهو قسمان قائم على ساق كالحنطة والشعير والأشجار الكبار وأصول الثمار وغير قائم كالبقول المنبسطة على الأرض والحشيش والعشب الذي هو غذاء الحيوان ثانيها: هو أنه تعالى لما ذكر القرآن وكان هو كافياً لا يحتاج معه إلى دليل آخر قال بعده: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر} وغيرها من الآيات إشارة إلى أن بعض الناس إن تكن له النفس الزكية التي يغنيها الله بالدلائل التي في القرآن، فله في الآفاق آيات منها الشمس والقمر، وإنما اختارهما للذكر لأن حركتهما بحسبان تدل على فاعل مختار سخرهما على وجه مخصوص، ولو اجتمع من في العالم من الطبيعيين والفلاسفة وغيرهم وتواطئوا أن يثبتوا حركتهما على الممر المعين على الصواب المعين والمقدار المعلوم في البطء والسرعة لما بلغ أحد مراده إلى أن يرجع إلى الحق ويقول: حركهما الله تعالى كما أراد، وذكر الأرض والسماء وغيرهما إشارة إلى ما ذكرنا من الدلائل العقلية المؤكدة لما في القرآن من الدلائل السمعية ثالثها: هو أنا ذكرنا أن هذه السورة مفتتحة بمعجزة دالة عليها من باب الهيئة فذكر معجزة القرآن بما يكون جواباً لمنكري النبوة على الوجه الذي نبهنا عليه، وذلك هو أنه تعالى أنزل على نبيه الكتاب وأرسله إلى الناس بأشرف خطاب، فقال: بعض المنكرين كيف يمكن نزول الجرم من السماء إلى الأرض وكيف يصعد ما حصل في الأرض إلى السماء؟ فقال تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} إشارة إلى (أن) حركتهما بمحرك مختار ليس بطبيعي وهم وافقونا فيه وقالوا: إن الحركة الدورية لا يمكن أن تكون طبيعية اختيارية فنقول: من حرك الشمس والقمر على الإستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ثم النجم والشجر يتحركان إلى فوق على الاستقامة مع أن الثقيل على مذهبكم لا يصعد إلى جهة فوق فذلك بقدرة الله تعالى وإرادته، فكذلك حركة الملك جائزة مثل الفلك، وأما قوله: {بِحُسْبَانٍ} ففيه إشارة إلى الجواب عن قولهم: {أأنزلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا بْل} [ص: 8] وذلك لأنه تعالى كما اختار لحركتهما ممراً معيناً وصوباً معلوماً ومقداراً مخصوصاً كذلك اختار للملك وقتاً معلوماً وممراً معيناً بفضله وفي التفسير مباحث:
الأول: ما الحكمة في تعريفه عما يرجع إلى الله تعالى حيث قال هما: {بِحُسْبَانٍ} ولم يقل: حركهما الله بحسبان أو سخرهما أو أجراهما كما قال: {خَلَقَ الإنسان} [الرحمن: 3] وقال: {عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 4] نقول: فيه حكم منها أن يكون إشارة إلى أن خلق الإنسان وتعليمه البيان أتم وأعظم من خلق المنافع له من الرزق وغيره، حيث صرح هناك بأنه فاعله وصانعه ولم يصرح هنا، ومنها أن قوله: {الشمس والقمر} هاهنا بمثل هذا في العظم يقول القائل: إني أعطيتك الألوف والمئات مراراً وحصل لك الآحاد والعشرات كثيراً وما شكرت، ويكون معناه حصل لك مني ومن عطائي لكنه يخصص التصريح بالعطاء عند الكثير، ومنها أنه لما بينا أن قوله: {الشمس والقمر} إشارة إلى دليل عقلي مؤكد السمعي ولم يقل: فعلت صريحاً إشارة إلى أنه معقول إذا نظرت إليه عرفت أنه مني واعترفت به، وأما السمعي فصرح بما يرجع إليه من الفعل الثاني: على أي وجه تعلق الباء من {بِحُسْبَانٍ}، نقول: هو بين من تفسيره والتفسير أيضاً مر بيانه وخرج من وجه آخر، فنقول: في الحسبان وجهان الأول: المشهور أن المراد الحساب يقال: حسب حساباً وحسباناً، وعلى هذا فالباء للمصالحة تقول: قدمت بخير أي مع خير ومقروناً بخير فكذلك الشمس والقمر يجريان ومعهما حسابهما ومثله: {إِنَّا كُلَّ شَيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، {وَكُلُّ شَيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] ويحتمل أن تكون للاستعانة كما في قولك: بعون الله غلبت، وبتوفيق الله حجت، فكذلك يجريان بحسبان من الله والوجه الثاني: أن الحسبان هو الفلك تشبيهاً له بحسبان الرحا وهو ما يدور فيدير الحجر، وعلى هذا فهو للاستعانة كما يقال: في الآلات كتبت بالقلم فهما يدوران بالفلك وهو كقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [ياس: 40].
الثالث: على الوجه المشهور هل كل واحد يجري بحسبان أو كلاهما بحسبان واحد ما المراد؟ نقول: كلاهما محتمل فإن نظرنا إليهما فلكل واحد منهما حساب على حدة فهو كقوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} [الأنبياء: 33] لا بمعنى أن الكل مجموع في فلك واحد وكقوله: {وَكُلُّ شَيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وإن نظرنا إلى الله تعالى فللكل حساب واحد قدر الكل بتقدير حسبانهما بحساب، مثاله من يقسم ميراث نفسه لكل واحد من الورثة نصيباً معلوماً بحساب واحد، ثم يختلف الأمر عندهم فيأخذ البعض السدس والبعض كذا والبعض كذا، فكذلك الحساب الواحد.
وأما قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} ففيه أيضاً مباحث:
الأول: ما الحكمة في ذكر الجمل السابقة من غير واو عاطفة، ومن هنا ذكرها بالواو العاطفة؟ نقول ليتنوع الكلام نوعين، وذلك لأن من بعد النعم على غيره تارة يذكر نسقاً من غير حرف، فيقول: فلان أنعم عليك كثيراً، أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، قواك بعد ضعف، وأخرى يذكرها بحرف عاطف وذلك العاطف قد يكون واواً وقد يكون فاء وقد يكون ثم، فيقول: فلان أكرمك وأنعم عليك وأحسن إليك، ويقول: رباك فعلمك فأغناك، ويقول: أعطاك ثم أغناك ثم أحوج الناس إليك، فكذلك هنا ذكر التعديد بالنوعين جميعاً، فإن قيل: زده بياناً وبين الفرق بين النوعين في المعنى، قلنا: الذي يقول بغير حرف كأنه يقصد به بيان النعم الكثيرة فيترك الحرف ليستوعب الكل من غير تطويل كلام، ولهذا يكون ذلك النوع في أغلب الأمر عند مجاوزة النعم ثلاثاً أو عندما تكون أكثر من نعمتين فإن ذكر ذلك عند نعمتين فيقول: فلان أعطاك المال وزوجك البنت، فيكون في كلامه إشارة إلى نعم كثيرة وإنما اقتصر على النعمتين للأنموذج، والذي يقول بحرف فكأنه يريد التنبيه على استقلال كل نعمة بنفسها، وإذهاب توهم البدل والتفسير، فإن قول القائل: أنعم عليك أعطاك المال هو تفسير للأول فليس في كلامه ذكر نعمتين معاً بخلاف ما إذا ذكر بحرف، فإن قيل: إن كان الأمر على ما ذكرت فلو ذكر النعم الأول بالواو ثم عند تطويل الكلام في الآخر سردها سرداً، هل كان أقرب إلى البلاغة؟ وورود كلامه تعالى عليه كفاه دليلاً على أن ما ذكره الله تعالى أبلغ، وله دليل تفصيلي ظاهر يبين ببحث وهو أن الكلام قد يشرع فيه المتكلم أولاً على قصد الاختصار فيقتضي الحال التطويل، إما لسائل يكثر السؤال، وإما لطالب يطلب الزيادة للطف كلام المتكلم، وإما لغيرهما من الأسباب وقد يشرع على قصد الإطناب والتفصيل، فيعرض ما يقتضي الاقتصار على المقصود من شغل السامع أو المتكلم وغير ذلك مما جاء في كلام الآدميين، نقول: كلام الله تعالى فوائده لعباده لا له ففي هذه السورة ابتدأ الأمر بالإشارة إلى بيان أتم النعم إذ هو المقصود، فأتى بما يختص بالكثرة، ثم إن الإنسان ليس بكامل العلم يعلم مراد المتكلم إذا كان الكلام من أبناء جنسه، فكيف إذا كان الكلام كلام الله تعالى، فبدأ الله به على الفائدة الأخرى وإذهاب توهم البدل والتفسير والنعي على أن كل واحد منها نعمة كاملة، فإن قيل: إذا كان كذلك فما الحكمة في تخصيص العطف بهذا الكلام والابتداء به لا بما قبله ولا بما بعده؟ قلنا: ليكون النوعان على السواء فذكر الثمانية من النعم كتعليم القرآن وخلق الإنسان وغير ذلك أربعاً منها بغير واو وأربعاً بواو، وأما قوله تعالى: {فِيهَا فاكهة والنخل} [الرحمن: 11] وقوله: {والحب ذُو العصف} [الرحمن: 12] فلبيان نعمة الأرض على التفصيل ثم في اختيار الثمانية لطيفة، وهي أن السبعة عدد كامل والثمانية هي السبعة مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى أن نعم الله خارجة عن حد التعديد لما أن الزائد على الكمال لا يكون معيناً مبيناً، فذكر الثمانية منها إشارة إلى بيان الزيادة على حد العدد لا لبيان الانحصار فيه.
المسألة الثانية: النجم ماذا؟ نقول: فيه وجهان:
أحدهما: النبات الذي لا ساق له والثاني: نجم السماء والأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ذكر أرضين في مقابلة سماوين، ولأن قوله: {يَسْجُدَانِ} يدل على أن المراد ليس نجم السماء لأن من فسر به قال: يسجد بالغروب، وعلى هذا فالشمس والقمر أيضاً كذلك يغربان، فلا يبقى للاختصاص فائدة، وأما إذا قلنا: هما أرضان فنقول: {يَسْجُدَانِ} بمعنى ظلالهما تسجد فيختص السجود بهما دون الشمس والقمر، وفي سجودهما وجوه:
أحدها: ما ذكرنا من سجود الظلال ثانيها: خضوعهما لله تعالى وخروجهما من الأرض ودوامهما وثباتهما عليها بإذن الله تعالى، فسخر الشمس والقمر بحركة مستديرة والنجم بحركة مستقيمة إلى فوق، فشبه النبات في مكانها بالسجود لأن الساجد يثبت. ثالثها: حقيقة السجود توجد منهما وإن لم تكن مرئية كما يسمح كل منهما وإن لم يفقه كما قال تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، رابعها: السجود وضع الجبهة أو مقاديم الرأس على الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما على الأرض وأرجلهما في الهواء، لأن الرأس من الحيوان ما به شربه واغذاؤه، وللنجم والشجر اغتذاؤهما وشربهما بأجذالهما ولأن الرأس لا تبقى بدونه الحياة والشجر والنجم لا يبقى شيء منهما ثابتاً غضاً عند وقوع الخلل في أصولهما، ويبقى عند قطع فروعهما وأعاليهما، وإنما يقال: للفروع رؤوس الأشجار، لأن الرأس في الإنسان هو ما يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس، إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما على الأرض دائماً، فهو سجودهما بالشبه لا بطريق الحقيقة.
المسألة الثالثة: في تقديم النجم على الشجر موازنة لفظية للشمس والقمر وأمر معنوي، وهو أن النجم في معنى السجود أدخل لما أنه ينبسط على الأرض كالساجد حقيقة، كما أن الشمس في الحسبان أدخل، لأن حساب سيرها أيسر عند المقومين من حساب سير القمر، إذ ليس عند المقومين أصعب من تقويم القمر في حساب الزيج.


{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)}
ورفع السماء معلوم معنى، ونصبها معلوم لفظاً فإنها منصوبة بفعل يفسره قوله: {رَفَعَهَا} كأنه تعالى قال: رفع السماء، وقرئ {والسماء} بالرفع على الابتداء والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله: {الشمس والقمر} [الرحمن: 5] وأما وضع الميزان فإشارة إلى العدل وفيه لطيفة وهي أنه تعالى بدأ أولاً بالعلم ثم ذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن، ثم ذكر العدل وذكر أخص الأمور له وهو الميزان، وهو كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} [الحديد: 25] ليعمل الناس بالكتاب ويفعلوا بالميزان ما يأمرهم به الكتاب فقوله: {عَلَّمَ القرءان} [الرحمن: 2] {وَوَضَعَ الميزان} مثل: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} فإن قيل: العلم لا شك في كونه نعمة عظيمة، وأما الميزان فما الذي فيه من النعم العظيمة التي بسببها يعد في الآلاء؟ نقول: النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد بأن يغلبه الآخر ولو في الشيء اليسير، ويرى أن ذلك استهانة به فلا يتركه لخصمه لغلبة، فلا أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه فلولا التبيين ثم التساوي لأوقع الشيطان بين الناس البغضاء كما وقع عند الجهل وزوال العقل والسكر، فكما أن العقل والعلم صارا سبباً لبقاء عمارة العالم، فكذلك العدل في الحكمة سبب، وأخص الأسباب الميزان فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته لكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8